تخطى الى المحتوى
لقد اشتركت بنجاح في عبد الله ذياب
عظيم! بعد ذلك ، أكمل عملية الدفع للوصول الكامل إلى عبد الله ذياب
مرحبا بعودتك! لقد نجحت في تسجيل الدخول.
نجاح! تم تنشيط حسابك بالكامل ، يمكنك الآن الوصول إلى جميع المحتويات.
.تم تحديث معلومات الفواتير الخاصة بك
فشل تحديث معلومات الفواتير.

الناس لا يحبّون السياسة

لكن الكوميدي اللاذع الشهير (جورج كارلين) كان يقول أنه لا يتذمّر من السياسيين؛ فهم "أبدع من أمكنت المجتمعات إخراجهم!".

عبد الله ذياب
عبد الله ذياب
1 دقيقة قراءة
الناس لا يحبّون السياسة

دائماً ما يصاحب الحديث عن السياسة -بوصفها حالة قائمة- في المجتمع نوع من النّبذ والامتعاض، الشعور بالسوء وتوسّل القابل من الأيام، التشتّت والدفع ناحية الإيهام واعتماد الأكاذيب وتصديرها كحقيقة. عند آخرين، هم يسارعون إلى التواري والتنصّل مباشرة من أي محادثة تناقش وضعاً سياسياً، قديماً أو طارئاً، ويرفعون هذا إلى ابتهالات دوام الستر والعافية، والحمد للقائد العزيز، وموشحات الوقوف على أطلال «الماضي الجميل».

الماضي الرّخو الذي لم يكن يسمعوا معه الأخبار المريرة التي يسمعونها اليوم، بالضبط؛ فهو ليس الماضي الذي كان أكثر التحاماً مع قضيتنا الأم، الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية ومشاهد الترويع التي صاحبت الانتفاضة الأولى والثانية، ليس ماضي الاستعمار لبلاد العرب وسياسات الهيمنة، وثورة المليون شهيد التاريخية في الجزائر، ولا الحرب الأهلية في لبنان، الثورات المتعاقبة في السودان وتحالف الديني والعسكري.

الماضي الذي تغيرت معه الخارطة السياسية أكثر من مرة، فبدءً بسقوط الحكم الملكي في العراق ومصر، والموجة القومية التالية، والناصرية بعدها، وردة الفعل الحادة في الخليج، وحرب اليمن، حرب 67، فالنكسة التي بلغت ذروتها في زيارة الكنيست الإسرائيلي من قبل السادات، واتفاق كامب ديفيد المشؤوم، فالاغتيال الشهير.

في العراق كان لدينا صعود نجم صدام حسين، فحرب العراق مع إيران لثمان سنوات ثم الكويت، الحروب التي تزامنت مع حرب البوسنة وأفغانستان اللتان ألقتا بظلالهما على الداخل المحلي في السعودية، وصعود تيارات وتراجع أخرى، وتفاصيل لا تزال حاضرة حتى اليوم عند مناقشة أي موضوع ... حقاً إنه ماضٍ ورديٌ جميل، عندما يكون بلا هواتف ذكية!

لا تعريف حصري للسياسة، غير أن الجميع يتفق على أنها إدارة شؤون الناس وتصريف أمور حياتهم والسعي إلى أفضل تنظيم دائم لحياة الأفراد والجماعات والمصالح لضمان الاستقرار والأمن والصحة والغذاء، ضرورات الحياة، حركة الثقافات، تبادل السلع وما يتعلق بالتوطين والهجرة، إنها لغة تفاهم وتوصيف، تطرح سؤال المقاربة لشكل السلطة وجدواها وانسحاباتها على حياة الناس.

لقد ارتبط الحديث عن السياسة بالدم، السجون والمعتقلات وحلقات الموت والتغييب في عالمنا العربي، وأصبحت مرادفاً «للنكد» الذي لن تجتهد في البحث عنه، فهو يعرف عنوانك كما يعبّر المرحوم جلال عامر. بيْد أن الأمور في تفصيلاتها لا تؤخذ بهذا التوصيف الجامع المخل؛ فقد يصادفك النكد في أشكالٍ أخرى، مدير عمل عطب المزاج، حرارة الجو أو توقف المطر وأنت نائم، زوجة حادة الطبع أو بائع متذمّر طيلة الوقت، إنما عُمِّدت السياسة -بهذا التوصيف- كوكيل امتياز للنكد.

الكوميدي اللاذع الشهير «جورج كارلين» كان يقول أنه لا يتذمّر من السياسيين؛ فهم أبدع من أمكنت المجتمعات إخراجهم! وبغض النظر عن إن كان هذا صحيحاً أم لا؛ إذا ما عرضناه على سياسات الظل وتغليب التحالفات والمصالح الحزبية الضيقة وحضور المال وشراء الذمم والترغيب والترهيب، إلا أنه لافت من وجه واحد.. أن السياسة نادٍ كبير ومجال واسع، وهو كغيره من المجالات المشتبكة، يميل لصالح قوى الخير أحياناً ولصالح قوى الشر غالباً، العامل الرئيسي الأوحد المؤثر فيه هو الشعوب، فهي رافده وضمانه، إلا أن هذه الشعوب هي رهينة قِلّة داخل هذا النادي، يوجهونها بالمال والدعاية ويتحكمون بها بالقوة والقسر ويبطشون بها إن تمردت كما تبيَّن معنا في ارتدادات الربيع العربي.

يتحجّجون بأن السياسة غير حاضرة في الرياضة، مثلاً، أو الفن أو التعليم، ودائماً ما يتهكم أهل الرياضة بأهل السياسة، أو يجتمعون في مجلس واحد يتبادلون النكات على بعضهم البعض، يبدو الأمر مسلياً، ولكن ما يلبث أن يبدأ البث التلفزيوني لأحد المباريات المحلية حتى يتفق الطرفان على التقاطهما رائحة السياسة في كل مرة مع صافرة الحكم!

في التاسعة تقريباً من مساء الثلاثاء، التاسع من يوليو عام 1996، وبعد انتهاء مباراة لاهبة بين أكبر ناديين ليبيين في العاصمة طرابلس، توسط الملعب وبلا سابق إنذار ومن غير سبب أربعين فرداً من قوات الصاعقة الليبية، وأطلقوا النار بشكلٍ عشوائي على الشباب المتجمهر، في حادثة شهيرة بشعة سطرها التاريخ الليبي بمداد من دماء عشرات الشباب الذين رحلوا بلا جريرة ارتكبت.

كانت الرواية الرسمية تزعم بأن الشبان من الفريقين ارتكبا أعمال شغب في المنصات ما استوجب قتلهم بهذه الطريقة العشوائية المُرّة، وطوي الملف سريعاً ومنع تداول الحديث حوله، وصرفت تعويضات رمزية بمقدار 1500 دولار لكل عائلة من عوائل الضحايا ولم يتم نقاشه إلا بعد الثورة في 2011.

إلا أن التقديرات الشعبية الليبية قالت أن القذافي تعمّد افتعال هذه الجريمة للتغطية على مذبحة سجناء أبو سليم الشهيرة في التاسع والعشرين من يونيو، أي قبلها بعشرة أيام، والتي راح ضحيتها أكثر من 1200 قتيل في ليلة واحدة، في أحد أكثر الليالي دموية من تاريخ نظام القذافي.

تقديرات غير مؤكدة، ربما تخدمنا في هذا السياق، تتحدث عن صراع بين اثنين من أبناء القذافي، وكلاهما رأس على كلّ نادي من الناديين التي جرت بينهما المباراة، كانا قد اختلفا الليلة التي قبلها، حيث جرت بالتّبَع شتائم ومناوشات بين الفريقين على إثر هذا الخلاف الكروي البحت؛ هذا الخلاف كان السبب وراء حسم والدهم رئيس البلاد (معمّر) الأمر والتوجيه بالتدخل والقيام بالجريمة بعد انتهاء المباراة واتخاذها كسبب وجيه لإغلاق الناديين كعقاب على خلاف بين ولديه المدلّلين!

نخلص من هذا إلى أن السياسة، أيضاً، كانت حاضرةً هنا، ليس فقط في الجريمة، فمنذ وجود أبناء رأس الدولة على أكثر النوادي شعبية في البلاد، وتأثيرها للرأي العام، واستغلال هذه الشعبية وتوظيفها حسب تحالف المال والمصالح المقدّر لهما تحصيلها، مروراً بالجريمة، والخلفيات المتوقعة من احتمالية انسحاب جريمة سجن أبو سليم عليها كغطاء، كله مشهد سياسي!

لن ننتهي من السّرد ونحن نستذكر قائمة بالمطربين الذين اشتغلوا بضرب العود وقرع الطبول للقائد العزيز في ميلاده السنوي الخالد، أو لتوظيفها في دعم خيار سياسي مفضل، أيضاً حسب هوى ذلك القائد، على حساب آخر، مهما كانت جريرته على الناس الذين يتم إنزال هذا الخِيار بهم، فطلاب هذه المدرسة يتساءلون أن منذ متى كان على الفن أن يكون أخلاقياً؟ فهو مصلحيٌ بالضرورة، ومتى كانت آخر مرة ادعى فيها أحدهم أن على الآلات والموسيقى أن تكون موجودة لتُرقّي الحس وتجلّيه وتستجلب رقة الفؤاد أو تشعل حماسة النبلاء الشجعان في قضاياهم العادلة؟ وأعني العادلة.

بعد الأزمة العالمية وتأثر الأسواق الحرة وانعكاسات هذا على الخدمات المقدمة وارتفاع أسعارها، بدأ الناس -وهم دائماً كذلك- بالتذمر، والتساؤل عن حقيقة ما يجري. لقد بدأوا بمشاركة استيائهم مع الآخرين في ارتفاع خدمات ضرورية: غذاء ودواء وكهرباء وماء، هنا هم يبدون رأياً في شأن خدمي متعلق بتحسين الأوضاع، هذه سياسة!

هذه الممارسة متأصلة فينا نحن كبشر، حق الإشادة والاعتراض وإبداء الرأي أو الانزعاج، استحسان خيار متعلق بمصالحك ومصالح الآخرين والمجتمع ورفض آخر، كل هذه ممارسات سياسية محيطة بك، ولن تتجاهلها. يبقى إن أردت أن تتعمّق فيها وتدرس ظواهرها، فهذا خيارك، والعالم أمامك، وهي هنا -بالطبع- لا تقتصر على صور دموية تردك على الهاتف.

تفضّل الحكومات المستبدة الترهيب من “الحديث في السياسة”، دون تعريف واضح لماهية «السياسة»، فهي هنا مرادف «للحكومة» وكل ما يغضبها، سدنتها والمنتفعين منها. إنها تستخدمه -هذا الشعار- كسلاح لإلجام المواطنين عن السؤال حول الحريات، الأموال وعدالة مؤسسات الضبط والقضاء وسريان القانون، الاقتصاد والسياسات الداخلية والخارجية؛ والتي ينسحب ضررها، أو فائدتها، عليهم.

هذه حيلة رائجة تستخدمها السلطات في بلداننا العربية، فهي تروّض الشعوب باستمرار على تحمّل تبعات الحديث في السياسة، أو الحديث في غير المرضي عنه، أو حتى أشكال الاعتراض العفوي أثناء حالة اختناق مروري أو داخل أروقة الجامعة أو أهازيج تطلقها الجماهير أثناء مباراة أو اعتصام أمام معمل رفض تقديم المخبوزات لعدم توفر الدقيق! كل هذا سلوك مزعج بالنسبة لمن يطالبونك بالاستمتاع بالأسعار المرتفعة والمياه الملوثة واختلال العدالة والقمع واطراد معدلات الجريمة والإهمال الإداري والفساد.

الناس لا يحبون السياسة، لأنهم يشعرون أنهم بلا سلطة، عاجزين عن العمل والتأثير والمشاركة وتقديم الحلول في تسيير حياتهم اليومية، فإما أن تكون بلادهم في حكم الميليشيات (=الأقليات المسلحة)، أو تحت تهديد تقسيم قادم لم يختاروه، أو رحمة مستبد يتوسلونه. كائنات محبطة وخائفة، يفضلون أن يصدّقوا الأكاذيب ليعيشوا -بالمعنى البسيط للعيش- على أن يُعمِلوا النقد والمساءلة لشكل حياتهم اليومية؛ فبدون هذه الأكاذيب سينسلخون عن مخيال الأمان الذي شيّدوه بفضل التأثير المركّز والفعال الذي تعرضوا له، وسلّموا به.

هنا، لا تنشأ أجيال تتناقل الزيوف فحسب، بل ثقافة كاملة تتوسع كبقعة الزيت في أكثر مناطق المحيط حيوية، وشكل حياة قائم على «المسكوت عنه»؛ أسْيِجة تحيط بأكثر المواضيع حضوراً وحساسية تضرب في عمق المجتمع، لا أحد يتحدث عنها، فقط لأن أصحاب القوّة والمَنَعة لا يريدون الحديث عنها، أولئك الذين لا يأبهون إن كان هذا يؤذن بتطورات جينية مشوّهة في كل الاتجاهات لتلكم المجتمعات أم لا، طالما أن هذا التشوّه يخدمهم.

مدونة

عبد الله ذياب

صحفي • مختص بالتواصل الرقمي • مهتم بإتاحة المعرفة، حرية التعبير وصناعة الرأي العام.